العودة   منتدى تناهيد قلب > ..::ღ♥ღ تناهيد قلب الإسلامي ღ♥ღ ::.. > علــــوم القرأن الكريــــم ✿
التسجيل التعليمـــات روابط مفيدة المجموعات التقويم مشاركات اليوم البحث
 
   


وقفات ودروس من سورة البقرة (8)

علــــوم القرأن الكريــــم ✿


إضافة رد
   
 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
   
  #1  
قديم 04-16-2024, 06:44 PM
حكآيتي آنتْ♚ حكآيتي آنتْ♚ غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Mar 2024
المشاركات: 530
افتراضي وقفات ودروس من سورة البقرة (8)




تابع معالم في سياق السورة، وفيها:
حقيقة السِّحْر، حقيقة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، مسألة القبلة، مفهوم الأمة الوسط، والْمَعْلَم السادس، توجيهات نفسية في الشدائد والكروب، مسألة الاستعانة بالصبر والصلاة، ومعية الله عز وجل للصابرين.

الْمَعْلَم الثاني: حقيقة السِّحْر، وهذا المعلم من المعالم المميزة لسورة البقرة؛ إذ لم يَرِدْ ذِكْرُ السِّحْر بتفصيله في القرآن الكريم إلا في هذه السورة.



ولما كان هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية في حياة الأمة اليوم التي استشرى فيها السِّحْر بصنوفه وأنواعه، والعياذ بالله، وجدنا أن نتوسَّع في عرضه، وبالله التوفيق.

يقول جل في علاه: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101 - 103].

بنو إسرائيل هم أبرز من اشتغل بالسِّحْر علمًا وتعليمًا وعملًا: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102].

وماذا كانت تتلو الشياطين على ملك سليمان؟ كانت تتلو السِّحْر.

ولكي يبرر بنو إسرائيل اشتغالهم بالسِّحْر المحرَّم، كانوا يتهمون سليمان بأنه ساحر.

جاء في تفسير ابن كثير: "عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصِفُ كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، قال: فأكْفَرَه جُهَّال الناس وسبُّوه، ووقف علماؤهم فلم يَزَل جُهَّالهم يسبُّونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].

وقال سعيد بن جبير: كان سليمان عليه السلام يتتبَّع ما في أيدي الشياطين من السِّحْر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدبَّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخِّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستثار به الإنس واستخرجوه، فعمِلوا بها، فقال أهل الحِجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر؛ فأنزل الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءةَ سليمان عليه السلام، فقال: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102]، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمَدَتِ الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السِّحْر: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليقل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا أصناف السِّحْر جعلوه في كتاب، ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصَّدِيق للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل، حتى أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا، فأفشَوا السِّحْر في الناس، وتعلَّموه وعلَّموه، وليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمانَ بن داود، وعدَّه فيمن عدَّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألَا تعجبون من محمد؟ يزعُم أن ابن داود كان نبيًّا، والله ما كان إلا ساحرًا؛ وأنزل الله في ذلك من قولهم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102]؛ الآية"؛ [انتهى، ابن كثير].

إذًا ليس سليمانُ هو الذي كَفَرَ واتبع السِّحْر، وإنما الشياطين هم الذين كفروا، وهذا - أي كفرهم - واقع منذ أن امتنع أبيهم عن السجود لآدم، ولأن إبليس قد أقسم لربه على غواية ابن آدم: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]، فقد وجد هو وجنوده من الشياطين في السِّحْر مدخلًا عظيمًا لتحقيق هذه الغواية.

وهكذا أخذ الشياطين على عاتقهم مهمة تعليم الناس السِّحْر.

ومعلوم أن السِّحْر لا يكون إلا باستعانة الإنس بالجن، وكما أن الإنسيَّ الذي يعمل بالجن من صنف الإنس الكافرين، كذلك الجني الذي يتصل به لإنفاذ السِّحْر من جنس الجن الكافرين، والشياطين تشمل الاثنين معًا، وهم خدم إبليس والعياذ بالله.

ويقع الخلاف بين المفسرين في تتمة الآية: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ [البقرة: 102]، فمنهم من يرى أن (ما) هنا نافية، تنفي أن يكون السِّحْر قد أُنزِل على الملكين هاروت وماروت، لكن هذا بعيد عن سياق الآيات التي يُفهم منها بصريح التعبير أنه أُنزل عليهم، وأن (ما) هنا معطوفة على السِّحْر، كما يرى الدكتور فاضل السامرائي، بأنها بمعنى (الذي)، فيكون المعنى: يعلمون الناس السِّحْر والذي أُنزل على الْمَلَكَين ببابل هاروت وماروت، المفسرون الذين اختاروا أن تكون (ما) نافية لتعلم الملكين السِّحْرَ، اعتمدوا على أن الملكين لا يمكن أن يتعلمان السِّحْر ويعلمانه للناس، وأن هاروت وماروت رجلان قاما بتعليم الناس السِّحْر بعد تحذيرهم منه، والمفسرون الذين اعتمدوا (ما) معطوفة على السِّحْر بمعنى الذي يقولون بأن هذين الملكين هاروت وماروت علمهما الله السِّحْر، وأنزلهما للناس فتنةً، لكنهما يحذرون الناس قبل تعليمهم السِّحْر من أن هذا فتنة وكفر: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102]، فمن أصرَّ على التعلُّم كَفَرَ.

الدافع الأكبر لتعلُّم السِّحْر والدخول في الكفر التفريق بين المرء وزوجه: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]، وهذه غاية ما يتمناه الشيطان في الإفساد بين بني البشر؛ روى مسلم في صحيحه، من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان لَيَضعُ عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: ما زِلْتُ بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين أهله، قال: فيقرِّبه ويُدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم، أنت)).

السِّحْر بين الأسباب والمشيئة الربانية:
ولكن هل ما يحدث بعد إنفاذ السِّحْر يكون بفعل السِّحْر/ الساحر نفسه وتأثيره؟ ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]، فيكون الجواب: بالطبع لا.

فلا شيء في هذا الكون يقع إلا بمشيئة الله، ولا شيء يُرفع إلا بمشيئته، لكن شياطين الإنس والجن أسباب لهذا الوقوع أو الرفع، وهذا من تمام الابتلاء لبني آدم، في مجتمعنا، للأسف الشديد، الكثير من الخلط بين المشيئة الإلهية، وسبب النفع والضر، سواء عن طريق السِّحْر أو التقرب للأولياء والدعاء عندهم، ومن تمام الفتنة أن يحصل مراد الإنسان بعد لجوئه إلى هذه الأعمال، فيقع في نفسه أنه لو لم يكن ما فعله صوابًا، لَما استُجيب له، كما أن من ضعف الإيمان اللجوءَ إلى السِّحْر من أجل فكِّ السِّحْر، وهذه فتنة أخرى، أعاذنا الله منها، فقد أجمع أهل العلم أنه من الكبائر، وكلما طال الزمن وتعاظمت الفتن، استشرى وتفشَّى هذا النوع من علاج السِّحْر، وأصبحنا اليوم نسمع به بكثرة أضعاف ما كنا نسمع به منذ سنوات، ولله المشتكى.

ويزيِّن العاملون بالسِّحْر هذا النوع من العلاج المحرَّم للضحية بشتى الألفاظ والعبارات الرحيمة، حتى لَيظن صاحبها أنه على الحق المطلق في اتباع هذا، وأن هذا المفكك لا يعمل إلا بالخير، وهم يعتمدون بذلك على جهل الضحية، ورِقَّة قلبها، وسطحية فَهمها للقرآن.

إن تغيير الاسم من ساحر أو مشتغل بالسِّحْر إلى مفكِّك، لا يغيِّر من حقيقته شيئًا، هي في النهاية طلاسم وشعوذات، لا تدري إلام ستُفضي بك، ولا ننسى أن مستعظم النار من مستصغر الشَّرر.

ولا يغرنَّك ما يستفتح به الساحر من آيات من القرآن، وما يبدأ فيه معك بالجلسات الأولى من نصائح لا تتعدى آيات من القرآن بعدد معين وفي وقت معين، اجعل مرجعك الكتاب والسنة في كل ما يعرِض لك، وتساءل: لو كان في هذا صحة ومصلحة، فلِمَ لَمْ ينصحنا به الرسول الكريم؟

التأثر بالسِّحْر وعلاجه:
السِّحْر لا يقع إلا على ذوي الإيمان الضعيف، البعيدين عن القرآن والذكر، من يعتقدون الخلاص على يد العباد دون رب العباد، فإن كان الله قد وضع لنا الوقاية والعلاج من السِّحْر، فلِمَ نتركه ونلجأ إلى غيره؟

يقول ابن القيم: "من أنفع الأدوية، وأقوى ما يوجد من النُّشرة مقاومةُ السِّحْر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية: من الذكر، والدعاء، والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله وِرْدٌ من الذكر، والدعاء، والتوجه، لا يخِلُّ به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السِّحْر له، قال: وسلطان تأثير السِّحْر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء، والصبيان، والجُهَّال؛ لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشَط على الأرواح، تلقاها مستعدة لما يناسبها"؛ [انتهى، ابن القيم].

علاج السِّحْر إذًا آية الكرسي والمعوِّذتان وأذكار الصباح والمساء، والتعلق الدائم بذكر الله، وأن يكون لأحدنا نصيب يوميٌّ مستمر من القرآن، وسورة البقرة للمستطيع: ((اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخْذَها بركة، وتركَها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ؛ قال معاوية: بلغني أن البطلة: السَّحَرة))؛ [أخرجه مسلم عن أبي أمامة الباهلي].

يقول ابن كثير في تفسيره: "فأنفع ما يُستعمَل في إذهاب السِّحْر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: ((ولم يتعوَّذ المتعوِّذ بمثلهما))، وكذلك قراءة آية الكرسي؛ فإنها مطردة للشياطين".

هل السِّحْر من العلوم المفيدة حقًّا؟
يقول جل في علاه: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]، وهذه هي العاقبة، وليس أشد على الإنسان من معرفته بنتيجة أفعاله ومصيره الذي ينتظره بما قدمت يداه، يعملون السِّحْرَ وهم يعلمون أن ﴿ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 102]، لكنه تزيين الشياطين، واتباع الهوى، وتحدي الخالق.

اللهم نسألك العفو والعافية.

اللهم نسألك المعافاة الدائمة من كل سحر وساحر، وشرك ومشرك.

اللهم تولَّانا برحمتك، وارعَنا برعايتك يا أرحم الراحمين.


الْمَعْلَم الثالث: حقيقة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب: اليهود والنصارى:
فالقاعدة الأزلية في علاقة المسلمين مع اليهود والنصارى قاعدة ثابتة إلى يوم الدين: لا يمكن ليهودي ولا لنصراني أن يرضى عن مسلم إلا في حال واحدة؛ وهي أن يترك دينه ويتبع دينهم، أخبرنا بذلك العلي القدير، عالم السر وأخفى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

والمتأمل في الآية يجد أن المولى جل في علاه قال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ﴾ [البقرة: 120] بعموم ليس فيه استثناء، فهو جل في علاه لم يقل: لن ترضى عنك طائفة من اليهود والنصارى، ولم يقل: لن ترضى عنك فرقة من اليهود والنصارى، بل قال: اليهود ولا النصارى عامة.

ثم إنه جل في علاه قال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى ﴾ [البقرة: 120]، ولم يقل: لم ترضَ، فرضاهم ليس أمرًا صعبًا فحسب، بل أمرًا مستحيلًا ممتنعًا، لن يحصل بحال من الأحوال، لا عن طريق تقديم تنازلات، ولا الإمساك بالعصا من المنتصف، ولا بالمسايرة والمداراة أبدًا، الثمن الوحيد لرضاهم هو أن تنسلخ عن دينك، أيها المسلم.

وبالرغم من أن النصارى واليهود تفرَّقوا مِلَلًا وفِرَقًا متناحرة في كثير من الأحيان، فإن الله عز وجل أجمع هذه الملل في هذه الآية بملة واحدة؛ فقال: ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، للدلالة على أن ملة الكفر واحدة، وهذا ما شهِد عليه الماضي والحاضر، فمن أجل محاربة الإسلام، تجتمع وتتوحَّد كل أقطاب الكفر والشرك، لتشكِّل قطبًا واحدًا، رايته: دمِّروا الإسلام، وأبيدوا أهله؛ يقول الشوكاني في تفسير الآية: "قوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ﴾ [البقرة: 120] الآية، أي: ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات، ويُورِدونه من التعنُّتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون، وأجبتهم عن كل تعنُّت، لم يرضوا عنك، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم، والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه، وهكذا الشريعة، ثم ردَّ عليهم سبحانه؛ فأمره بأن يقول لهم: ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120] الحقيقي، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة، والكتب المحرَّفة، ثم أتْبَعَ ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنِ اتَّبع أهواءهم، وحاول رضاهم، وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم، ويحتمل أن يكون تعريضًا لأمته وتحذيرًا لهم أن يواقعوا شيئًا من ذلك، أو يدخلوا في أهْوِيَةِ أهل الملل، ويطلبوا رضا أهل البدع، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، وتتصدع منه الأفئدة، ما يُوجِب على أهل العلم الحاملين لحُجَجِ الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه تَرْكَ الدِّهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، الْمُؤْثِرين لمحضِ الرأي عليهما، فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولًا، وأبان من أخلاقه لينًا، لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخله، والوقوع في حبائله، فإن فَعَلَ العالِم ذلك بعد أن علَّمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة ورأي منهار، وتقليد على شفا جُرفٍ هارٍ، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير، ومن كان كذلك، فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك ولا شبهة"؛ [انتهى، الشوكاني، فتح القدير].

يقول السيوطي في أسباب نزول هذه الآية: "قول الله عز وجل: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قِبلتِهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة، شقَّ ذلك عليهم، وأيِسوا أن يوافقهم على دينهم؛ فأنزل الله هذه الآية"؛ [انتهى، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي].

يعني: ليست القضية مع اليهود والنصارى قضية القبلة، بل هي أعمق من ذلك، لو أنك - يا مسلم - وافقتهم في قبلتهم، وشاركتهم في بعض شعائرهم، وتشبَّهت بهم في أخلاقهم؛ فهذا كله لن يرضيهم، لن يرضى عنك هؤلاء إلا إذا تركت ملتك واتبعت ملتهم، وفي هذا درس لكثير من المسلمين الآن الذين يظنون أنهم إن وافقوا أهل الكتاب في بعض الأمور، رضُوا عنهم، وكفُّوا أذاهم عنهم.

لذلك كان حوار الأديان أو تقارب الأديان وَهْمٌ، لا يمكن التوصل به إلى أي تقارب حقيقي، ومن أصدق من الله قيلًا؟ والله المستعان.

والله عز وجل يوفر على المسلمين عناء تجرِبة يُحِبُّون أن يخوضوها كل يوم، ويستغرقون فيها، بل ويقنعون أنفسهم بجدواها، وهي قبول تودد اليهود والنصارى، والنزول عند مقترحاتهم، وتصديق أقاويلهم التي يزيِّنوها ويخادعون بها، بل واتخاذهم أولياء وأصدقاء وحتى بِطانة، فيعطيهم المولى النتيجة بكل دقة ووضوح: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، والمخاطب هنا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده.

الْمَعْلَم الرابع: مسألة القبلة:
وبها يفتتح الجزء الثاني، ومعها ينقلنا السياق من ماضي بني إسرائيل إلى حاضرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].



قال القرطبي: "قال كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحيَّر، وقال المنافقون: ما ولَّاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين، ثم تختص الآيات أهل الكتاب في هذا الأمر؛ لكثرة ما خاضوا فيه مشكِّكين، فتفضح أمرهم في ما يُسِرُّونه من عِلْمٍ بشأن تحويل القبلة في أنه أمر حق من عند الله: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]".

يقول ابن كثير: وقوله: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 144]؛ أي: واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبةَ، وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِه، وما خصه الله تعالى به، وشرَّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]"؛ [انتهى].

ومع مسألة القبلة يأتي السياق على واحد من أهم الأسس التي تشكِّل شخصية المجتمع المسلم؛ وهي المفاضلة بين اتباع أمر الله وخشية الناس، فيكون الأمر المطلق: ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150]؛ يقول عز من قائل: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 150].



المعلم الخامس: مفهوم الأمة الوسط:
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ يقول ابن كثير: "والوسط ها هنا: الخيار والأجود، كما يُقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا؛ أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه؛ أي: أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولمَّا جعل الله هذه الأمة وسطًا، خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب"؛ [انتهى].

وقال القرطبي: "ولما كان الوسط مجانبًا للغلوِّ والتقصير، كان محمودًا؛ أي: هذه الأمة لم تَغْلُ غلوَّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصَّروا تقصير اليهود في أنبيائهم.



وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، قال: عدلًا، قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي التنزيل: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾ [القلم: 28]؛ أي: أعدلهم وخيرهم.



في قوله تعالى: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: لأن تكونوا، ﴿ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143] خبر كان، ﴿ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: في المحشر للأنبياء على أُمَمِهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُدعَى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأُمَّتِه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا؛ فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

وقالت طائفة: معنى الآية: يشهد بعضكم على بعض بعد الموت؛ كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ((قال حين مرت به جنازة، فأُثْنِيَ عليها خير، فقال: وجبت وجبت وجبت، ثم مُرَّ عليه بأخرى، فأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال: وجبت وجبت وجبت، فقال عمر: فدًى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها خير، فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها شر، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أثنيتُم عليه خيرًا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض))؛ [أخرجه البخاري بمعناه]، وفي بعض طرقه في غير الصحيحين: ((وتلا: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]))"؛ [انتهى القرطبي].

وفي نفس السياق يذكِّرنا الله عز وجل بنعمة الإسلام التي أنعمها علينا معشر المسلمين: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، نعمة وجب لها الشكر للمُنْعِم، وذكره وتوحيده في كل آنٍ وحين: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

الْمَعْلَم السادس: توجيهات نفسية في الشدائد والكروب، مسألة الاستعانة بالصبر والصلاة، ومعية الله عز وجل للصابرين:
وهذه المسألة تبدأ بآيات شكر وتنتهي بآيات صبر؛ يقول تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 151 - 157].



الشدائد والكروب أمر مصاحِبٌ لابن آدم منذ أن سكن الأرض، فهو مخلوق متقلِّب بين سراء وضراء، وخير وشر، إلى أن تنقضي حياته، ولا استثناء في ذلك لأحد من البشر، بل إن الأنبياء والصالحين والمؤمنين أشد ابتلاء من غيرهم؛ كما جاء في صحيح الترمذي عن سعد بن وقاص قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابتُليَ على حسب دينه، فما يبرَح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)).



وهذا أمر وضَّحه العلي القدير في قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، لكن الله جل في علاه أكْرَمُ من أن يَكِلَ مَن خَلَقَ إلى الشدائد والكروب لتَفْتِكَ به، فكان أن أخبره بالعلاج الشافي لهمومه وكروبه وابتلاءاته، علاج سهل بسيط على من آمن واتقى: الصبر والصلاة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، فأول العلاج وآخره يقع بين الصبر والصلاة، يصفه الله لعباده للذين آمنوا، لماذا للذين آمنوا تحديدًا؟ لأنه علاج سهل على المؤمنين فقط، صعب على غيرهم، هذا العلاج يستفيد منه مَن آمن قولًا وقلبًا وعملًا بأن علاج الله حق وواقع ومؤثِّر، يطبِّقه خير التطبيق، مِن قلبه لا من أطراف جوارحه.



الصلاة تنفع في إراحة المؤمن حين يقيمها إقامةَ المتذلل لخالقه، المستحضر لقلبه فيها، العارف لمعناها أنها الصلة بينه وبين مالك الملك الخالق، المتصرف بالخير والشر.



والصبر ينفع المتصبِّر، الذي يُوقِن أن الصبر يحتاج إلى إيمان قوي، ويقين راسخ بمعية الله للصابرين، ينفع المؤمن الذي يعلم أن صبره قد يطول ويطول، ومحنته قد تنقضي بحياته، وقد لا تنقضي فيموت صابرًا، لكنه يوقن أن جزاءه سيكون جزاء غير متناهٍ، جزاء بغير حساب: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، فهل من نعمة أعظم من معِيَّةِ الله وحبِّه؟



ولِعِظَمِ منزلة الصبر جعل الله معيته في هذه الآية للصابرين وليس للمصلين: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154]، سبحانك ربي!



ثم يخبرنا الله عز وجل بالابتلاءات التي سيحتاج المؤمن معها إلى هذا العلاج، فأفرد للموت في سبيل الله آية، وللابتلاءات الدنيوية آية:

﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154].



﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].



فالقتل في سبيل الله لا يمكن أن يُرى جزاؤه إلا في الآخرة، ولا يمكن أن يصبر عليه إلا مَن آمن وأيقن بما أعدَّه الله لهذا الشهيد في الآخرة، فكانت بشارة الله عز وجل لأهل هؤلاء الشهداء أعظم علاج لحزنهم وقهرهم على فراق وفقد أحبابهم، فسبحان الكريم، الرحمن الرحيم!

اللافت في السياق القرآني لهذه الآيات أن آيات الصبر هذه تأتي مباشرة بعد آيات الشكر، التي وجَّه الله عباده إليها: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 151، 152]، وكأنه جل وعلا يقدم للابتلاءات التي قد تعتري المؤمنين بأكبر نعمة يستشعرها المؤمن في حياته؛ وهي الإسلام، الذي مَنَّ الله به عليه، فأرسل رسوله له ليعلمه كل ما يضمن النجاة من النار، والخلود في نعيم الجِنان، كي تهون عليه بعدها كل مصيبة دنيوية.

وصفة الصابرين: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، وجزاؤهم: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]؛ يقول السعدي في تفسيره: "فـ(الصابرين)، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ﴾ [البقرة: 156]، وهي كل ما يُؤلِم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره، ﴿ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 156]؛ أي: مملوكون لله، مُدبَّرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرَّف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد عِلْمُه بأن وقوع البَلِيَّة من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره لِما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجازٍ كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا، وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظُّنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر"؛ [انتهى].



وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً هو خير وأوسع من الصبر))؛ [صحيح البخاري].



اللهم نسألك اللطف في القضاء، والصبر على الشدائد.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-17-2024, 05:46 PM
شوق المطر شوق المطر غير متواجد حالياً
Senior Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2024
الدولة: ليبيا
المشاركات: 116
افتراضي

جزاكِ الله خيرا
وبارك فيكِ
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-25-2024, 09:14 AM
حكآيتي آنتْ♚ حكآيتي آنتْ♚ غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Mar 2024
المشاركات: 530
افتراضي

اسعدني مرورك
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


Loading...

   
 
 
   

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir