#1
|
|||
|
|||
تفسير سورة الأنعام الآيات (62: 64)
﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]. ﴿ ثُمَّ رُدُّوا ﴾ أيْ: الذينَ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ ﴿ إِلَى اللَّهِ ﴾ للجَزَاءِ وَالْحِسَابِ ﴿ مَوْلَاهُمُ ﴾ مالِكُهُمُ الَّذِي يَلِي أُمُورَهُم[1]، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ ﴿ الْحَقِّ ﴾ بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِاسْمِ اللهِ[2]، أي: مَوْلَاهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ[3]، وقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أيْ: أعْنِي أوْ أمْدَحُ[4]. ﴿ أَلَا لَهُ ﴾ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿ الْحُكْمُ ﴾ القَضَاءُ النَّافِذُ فِيهِمْ[5]. ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ أَيْ: إِذَا حَاسَبَ فَحِسَابُهُ سَرِيعٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَؤْيةٍ وَعَقْدِ يَدٍ[6]. ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 63]. ﴿ قُلْ ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلَاءِ الْمُشْرِكِينَ[7]: ﴿ مَنْ ﴾ الَّذِي ﴿ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ أَهْوَالِهِمَا وَشَدَائدِهِمَا فِي أسْفاركُمْ[8] حِينَ ﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا ﴾ مُظْهِرِينَ الضَّراعَةَ، وهِيَ شِدَّةُ الفَقْرِ إلى الشَّيْءِ والحاجَةِ[9] ﴿ وَخُفْيَةً ﴾ مُسِرِّينَ بِالدُّعاءِ[10]. تَقُولُونَ: ﴿ لَئِنْ ﴾ لَامُ قَسَمٍ[11] ﴿ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ ﴾ الظُّلُمَاتِ وَالشَّدائِدِ ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ المُؤْمِنِينَ[12]. ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 64]. ﴿ قُلِ ﴾ لَهُمْ[13]: ﴿ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا ﴾ أي: يُنْقذُكُمْ وُيَخَلِّصُكُمْ ﴿ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ أي: شِدَّةٍ وَضِيقٍ. ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ أَيْ: تَدْعُونَ مَعَهُ غيره[14]. وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَلُّقَ بِهِ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُنْجِي مِنْ كُرُبَاتِ وَشَدَائِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "التَّوْحِيدُ مَفْزَعُ أَعْدَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ؛ فَأَمَّا أَعْدَاؤهُ فَيُنَجِّيهِمْ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا وَشَدَائِدِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]. وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ فَيُنَجِّيهِمْ بِهِ مِنْ كُرُبات الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَشَدَائِدِهَا، ولذَلِك فَزِعَ إِلَيْهِ يُونُسُ فَنَجَّاهُ اللهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَفَزِعَ إِلَيْهِ أَتبَاعُ الرُّسُلِ فَنَجَوا بِهِ مِمَّا عُذِّبَ بِهِ الْمُشْركُونَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ولَمَّا فَزِعَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ عِنْد مُعَاينَةِ الْهَلَاكِ وإِدْرَاكِ الْغَرقِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ؛ لِأَنَّ الْإِيْمَانَ عِنْدَ المُعايَنةِ لَا يُقْبَل، هَذِه سُنَّةُ اللهِ فِي عِبادِهِ، فَمَا دُفِعَتْ شَدَائِدُ الدُّنْيَا بِمثْلِ التَّوْحِيدِ، ولذَلِكَ كَانَ دُعَاءُ الكَرْبِ بِالتَّوْحِيدِ، وَدَعْوةُ ذِي النُّون الَّتِي مَا دَعَا بهَا مَكْروبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ كَرْبَه بِالتَّوْحِيدِ، فَلَا يُلْقَى فِي الكُرَبِ الْعِظَامِ إِلَّا الشِّركُ، ولَا يُنْجِي مِنْهَا إِلَّا التَّوْحِيدُ، فَهُوَ مَفْزَعُ الخَلِيقة ومَلْجَؤُها، وحِصْنُها وَغِياثُهَا"[15]. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْأَوَّلِينَ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلاَّ فِي الرَّخَاءِ، وأَمَّا في الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ فَيُخْلِصُونَ الدِّينَ للهِ، كَمَا قَالَ: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 67]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [لقمان: 32] [16].
|
|
|
|